لا أحد يعمل دون مقابل، هذا الحد مقبول للجميع. بعد هذا تبدأ سلسلة من التساؤلات الموضوعية وغير الموضوعية “بسبب ضعف المرجعية الاقتصادية” والأبعاد التي تختلط فيها المواقع الشخصية ومستوى الوعي الاقتصادي والعدالة والكفاءة المجتمعية. هيكل الحوافز في كل مجتمع يأتي في صلب ليس الإدارة الاقتصادية فقط بل له دور في درجة الرضى الاجتماعي وروح التعاون لتحقيق الأهداف الاقتصادية وغير الاقتصادية وإن كانت غير مباشرة. ما يربط أعمال الأفراد والشركات الخاصة والحكومية والرقابية في منظومة واحدة هو هيكل الحوافز. نقصد بهيكل الحوافز ما تحصل عليه كل شخصية اعتبارية من مكسب “أجور ورواتب وأرباح” وفرص للكسب المادي والمعنوي بدرجة مقبولة من المنافسة والعدالة. المنظومة أيضا تعني درجة المرونة والسلاسة في العلاقة في الكسب في كل التعاملات. الكسب بالضرورة مختلف ظرفيا، ولكن لابد أن يصب في المصلحة العامة. التوافق بين هذه الشروط ليس سهلا. قدرة المجتمع على بناء هيكل حوافز صحي منسجم مع الأهداف الوطنية يحدد مسار النجاح أو الفشل.
مجمل دخل الأفراد والشركات معيار أساس للتكوين الاقتصادي. تحت هذا بالمجمل تفاصيل لا تقل أهمية. المال واحد ولكن أشكال وسبل الكسب تعتمد على طبيعة الأعمال. التداخل والتفاعل بين هيكل الحوافز وسبل الكسب يحدد معالم وطبيعة الحراك الاقتصادي. للاقتصاد التوزيعي سبل كسب مختلفة عن الاقتصاد الإنتاجي؛ هناك اختلاف في الدرجة قد يزيد أو ينقص حسب سيطرة أي منهما على النموذج الدارج. اختلاف مجالات الكسب حيوية، في الاقتصاد التوزيعي، كما لدينا يكون الكسب عادة لموظفي القطاع العام كما يعبر عنه حجم الرواتب في الميزانية العامة، وكذلك تجد بعض موظفي القطاع العام في وضع مالي مريح. كما أن مصادر الثروة غالبا عن طريق الامتيازات والأصول غير القابلة للتداول مع العالم الخارجي مثل الأراضي والعقارات حتى الأسهم تدخل تحت هذا التعريف الواسع. هذه تدر عوائد مجزية للأفراد ولكن عائدها العام ضعيف وأحيانا سلبي. بينما في الاقتصاد الحديث تقوم الحوافز بدور أكثر علاقة مع الحراك الاقتصادي.
في الاقتصاد الحديث تقوم الحوافز بتشكيل القوى الاقتصادية بحيث تميل الكفة إلى تعظيم المصلحة الجماعية على حساب الفردية. الحوافز في الاقتصاد التوزيعي هرمية ومستقرة لأن الاقتصاد في قوالب ثابتة نسبيا، فالكل يعرف مكانه في المنظومة الصومعية. يقابل ذلك في الاقتصاد الحديث يغلب الكسب الأفقي ـــ بمعنى البحث عن العمل في القطاع الخاص الأكثر تنوعا ما يزيد فرص بناء الشركات الصغيرة والمتوسطة “لاحظ أن الحديث لدينا عن الشركات الصغيرة والمتوسطة بعيد عن دورها في المنظومة الاقتصادية التي تشكل الحوافز عمادها”. التفكير والبحث الأفقي يرسم معالم خريطة اجتماعية مختلفة تشمل تنمية أوسع من الاقتصادية. فدرجة الاستقلال الفكري والمصلحي تجر إلى تعميق المهنية والتخصص. التحفيز في الاقتصاد التوزيعي ينتهي بمجرد الحصول على الوظيفة، بينما في الإنتاجي يستمر مفعول الحوافز.
منظومة الحوافز الصحية تقود إلى أنماط إدارية واجتماعية مختلفة. المنافسة النشطة تبرز الأفضل فينا ويصبح العائد على الاستثمار البشري أعلى وأكثر عقلانية ـــ عقلاني بسبب العلاقة الوثيقة بين المصلحة والجهد والموهبة والتعليم الجاد. تجد الكثير لدينا يتحدث عن التعليم وكأنه مثالية مجردة بعيدة عن الربط الوثيق مع الحراك الاقتصادي. الربط بين التعليم والاقتصاد يتم من خلال الحوافز وما ترسمه من خريطة طريق. منظومة الحوافز تحمل رسائل لكل مواطن ومقيم. لما تغيب الحوافز المتحركة يصبح التعليم متساهلا والشهادة هدفا دون غرض إنتاجي، فالكل يعرف مصلحته ويتفاعل مع منظومة الحوافز المستقرة.
هناك غياب لافت لدور هيكل الحوافز في إدارة التغيير البشري. في نظري لن يحدث تغيير مؤثر دون التركيز على منظومة الحوافز. دراسة ومراقبة منظومة الحوافز المجتمعية تعطي المراقب فرصة للوقوف على مدى العزيمة في السعي للتحديث. الجانب المعنوي وأبعاده المجتمعية لا يقل أهمية ولكن نقطة البداية لا بد أن تكون مادية النزعة لأسباب منها وضوح دور المصلحة في تحريك الأفراد والشركات وكذلك من نواح عملية، فالدعوة للإصلاح والتحديث والتخطيط لن تلاقي عقولا صاغية دون تفاعل حيوي مع المصالح من خلال منظومة الحوافز المتفاعلة.